الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاءُ} وهم الذين أسلموا منهم {والله غَفُورٌ} بستر كفر العدو بالإسلام {رَّحِيمٌ} بنصر الولي بعد الانهزام. {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} أي ذوو نجس وهو مصدر، يقال نجس نجساً وقذر قذراً لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم، ويكون المراد من نهي القربان النهي عن الحج والعمرة وهو مذهبنا ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يمنعون من المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون منه ومن غيره. وقيل: نهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقراً بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} من الغنائم أو المطر والنبات أو من متاجر حجيج الإسلام {إِن شَاءَ} هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى لتنقطع الآمال إليه {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأحوالكم {حَكِيمٌ} في تحقيق آمالكم، أو عليم بمصالح العباد حكيم فيما حكم وأراد ونزل في أهل الكتاب {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} لأن اليهود مثنيّة والنصارى مثلثة {وَلاَ باليوم الأخر} لأنهم فيه على خلاف ما يجب حيث يزعمون أن لا أكل في الجنة ولا شرب {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة، أو لا يعملون بما في التوراة والإنجيل {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحق. يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيان للذين قبله، وأما المجوس فملحقون بأهل الكتاب في قبول الجزية، وكذا الترك والهنود وغيرهما بخلاف مشركي العرب لما رُوي الزهري أن النبي عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب {حتى يُعْطُواْ الجزية} إلى أن يقبلوها، وسميت جزية لأنه مما يجب على أهلها أن يجزوه أي يقضوه، أو هي جزاء على الكفر على التحميل في تذليل {عَن يَدٍ} أي عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ولذا قالوا: أعطى بيده إذا انقاد، وقالوا: نزع يده عن الطاعة. أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثاً على يدٍ أحد ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ {وَهُمْ صاغرون} أي تؤخذ منهم على الصغار والذل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أدِّ الجزية يا ذمي وإن كان يؤديها ويزخ في قفاه وتسقط بالإسلام. {وَقَالَتِ اليهود} كلهم أو بعضهم {عُزَيْرٌ ابن الله} مبتدأ وخبر كقوله {المسيح ابن الله} وعزير اسم أعجمي، ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه، ومن نون. وهم عاصم وعلي فقد جعله عربياً {وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} أي قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ عن معنى تحته كالألفاظ المهملة {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} لا بد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً يعني أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث، أو الضمير للنصارى أي يضاهي قولهم {المسيح ابن الله} قول اليهود {عُزَيْرٌ ابن الله} لأنهم أقدم منهم {يضاهئون} عاصم. وأصل المضاهاة المشابهة، والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم «امرأة ضهياء» وهي التي أشبهت الرجال بأنها لا تحيض كذا قاله الزجاج، {قاتلهم الله} أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان. {اتخذوا} أي أهل الكتاب {أحبارهم} علماءهم {ورهبانهم} نساكهم {أَرْبَابًا} آلهة {مِّن دُونِ الله} حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله كما يطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم {والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطف على {أحبارهم} أي اتخذوه رباً حيث جعلوه ابن الله {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} يجوز الوقف عليه لأن ما بعده يصلح ابتداء يصلح وصفاً لواحداً {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه له عن الإشراك {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخه. أجرى {ويأبى الله} مجرى {لاَ يُرِيدُ الله} ولذا وقع في مقابله {يُرِيدُونَ} وإلا فلا يقال: كرهت أو أبغضت إلا زيداً. {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمداً عليه السلام {بالهدى} بالقرآن {وَدِينِ الحق} الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدين كُلِّهِ} على أهل الأديان كلهم، أو ليظهر دين الحق على كل دين {وَلَوْ كَرِهَ المشركون * يا أيها الذين آمنوا إنَّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس} استعار الأكل للأخذ {بالباطل} أي بالرشا في الأحكام {وَيَصُدُّونَ} سفلتهم {عَن سَبِيلِ الله} دينه {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان للدلالة على اجتماع خصلتين ذميمتين فيهم: أخذ الرشا وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من أهل الكتاب تغليظاً. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكي فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً» ولقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأن الإعراض اختيار للأفضل والاقتناء مباح لا يذم صاحبه {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} الضمير راجع إلى المعنى لأن كل واحد منهما دنانير ودراهم، فهو كقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9]. أو أريد الكنوز ولأموال، أو معناه ولا ينفقونها والذهب كما أن معنى قوله: فإني وقيار بها لغريب *** وقيار كذلك. وخصا بالذكر من بين سائر الأموال لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء. وذكر كنزهما دليل على ما سواهما {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} ومعنى قوله {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أن النار تحمي عليها أي توقد، وإنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت النار قيل {يحمى} لانتقاد الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول «رفعت القصة إلى الأمير» فإن لم تذكر القصة قلت «رفع إلى الأمير» {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم، أو معناه يكوون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ} يقال لهم هذا ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وهو توبيخ {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه، أو وبال كونكم كانزين. {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} من غير زيادة، والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتني على الشهور القمري المحسوبة بالأهلة دون الشمسية {فِي كتاب الله} فيما أثبته وأوجبه من حكمته أو في اللوح {يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ثلاثة سرد: ذو القعدة للقعود عن القتال، وذو الحجة للحج، والمحرم لتحريم القتال فيه، وواحد فرد وهو رجب لترجيب العرب إياه أي لتعظيمه {ذلك الدين القيم} أي الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية يعني أن تحريم الأربعة الأشهر هو الدين المستقيم ودين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب تمسكت به فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسيء فغيروا {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} في الحرم أو في الاثني عشر {أَنفُسَكُمْ} بارتكاب المعاصي {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} حال من الفاعل أو المفعول {كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} جميعاً {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي ناصر لهم حثهم على التقوى بضمان النصرة لأهلها {إِنَّمَا النسيء} بالهمزة مصدر نسأه إذا أخره، وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من بين شهور العام أربعة أشهر {زِيَادَةٌ فِي الكفر} أي هذا الفعل منهم زيادة في كفرهم {يُضَلُّ} كوفي غير أبي بكر {بِهِ الذين كَفَرُواْ} بالنسيء. والضمير في {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} للنسيء أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً رجعوا فحرموه في العام القابل {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين. واللام تتعلق ب {يُحِلُّونَهُ} و{يحرمونه} أو ب {يحرمونه} فحسب وهو الظاهر {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} أي فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالهم} زين الشيطان لهم ذلك فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} حال اختيارهم الثبات على الباطل. ا {ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا} اخرجوا {فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم} تثاقلتم وهو أصله إلا أن التاء أدغمت في الثاء فصارت ثاء ساكنة، فدخلت ألف الوصل لئلا يبتدأ بالساكن أي تباطأتم {إِلَى الأرض} ضمن معنى الميل والإخلاد فعدي ب «إلى» أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم، وكان ذلك في غزوة تبوك استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك. وقيل: ماخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّي عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة {أَرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} بدل الآخرة {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة} في جنب الآخر {إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ} إلى الحرب {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً. وقيل: الضمير في {وَلاَ تَضُرُّوهُ} للرسول عليه السلام لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ووعده كائن لا محالة {والله على كُلّ شَيْءٍ} من التبديل والتعذيب وغيرهما {قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد، فدل بقوله {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أسند الإخراج إلى الكفار لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه {ثَانِيَ اثنين} أحد اثنين كقوله {ثالث ثلاثة} وهما رسول الله وأبو بكر، وانتصابه على الحال {إِذْ هُمَا} بدل من {إِذْ أَخْرَجَهُ} {فِي الغار} هو نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثاً فيه ثلاثاً {إِذْ يَقُولُ} بدل ثانٍ {لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} بالنصرة والحفظ. قيل: طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه السلام: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» وقيل: لما دخل الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعم أبصارهم» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد أخذ الله بأبصارهم عنه وقالوا: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله وليس ذلك لسائر الصحابة {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه {عَلَيْهِ} على النبي صلى الله عليه وسلم أو على أبي بكر لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه، أو أيده بالملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ} أي دعوتهم إلى الكفر {السفلى وَكَلِمَةُ الله} دعوته إلى الإسلام {هِىَ} فصل {العليا} {وَكَلِمَةُ الله} بالنصب: يعقوب بالعطف، والرفع على الاستئناف أوجه إذ هي كانت ولم تزل عالية {والله عَزِيزٌ} يعز بنصره أهل كلمته {حَكِيمٌ} يذل أهل الشرك بحكمته.
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)} {انفروا خِفَافًا} في النفور لنشاطكم له {وَثِقَالاً} عنه لمشقته عليكم، أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتها، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه، أو ركباناً ومشاة أو شباباً وشيوخاً، أو مهازيل وسماناً، أو صحاحاً ومراضاً {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} إيجاب للجهاد بهما إن إمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة {فِي سَبِيلِ الله ذلكم} الجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من تركه {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كون ذلك خيراً فبادروا إليه. ونزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين {لَوْ كَانَ عَرَضًا} هو ما عرض لك من منافع الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر أي لو كان ما دعوا إليه مغنماً {قَرِيبًا} سهل المأخذ {وَسَفَرًا قَاصِدًا} وسطاً مقارباً، والقاصد والقصد المعتدل {لاَّتَّبَعُوكَ} لوافقوك في الخروج {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} المسافة الشاطة الشاقة {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}. من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما أخبر، و{بالله} متعلق ب {سَيَحْلِفُونَ}، أو هو من جملة كلامهم، والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون يعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، أو سيحلفون بالله يقولون لو استطعنا. وقوله {لخرجنا} سد مسد جوابي القسم و{لَوْ} جميعاً. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بدل من {سَيَحْلِفُونَ} أو حال منه أي مهلكين، والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب، أو حال من {لَخَرَجْنَا} أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها على المسير في تلك الشقة {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما يقولون. {عَفَا الله عَنكَ} كناية عن الزلة لأن العفو رادف لها وهو من لطف العتاب بتصدير العفو في الخطاب، وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} بيان لما كنى عنه بالعفو، ومعناه مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلّوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن! {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه. وقيل: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من الأسارى، فعاتبه الله. وفيه دليل جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه السلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد، وإنما عوتب مع أن له ذلك لتركه الأفضل وهم يعاتبون على ترك الأفضل {لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا} ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا {بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين} عدة لهم بأجزل الثواب. {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً {وارتابت قُلُوبُهُمْ} شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المتبصر {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ} للخروج أو للجهاد {عُدَّةً} أهبة لأنهم كانوا مياسير، ولما كان {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو قيل: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} نهوضهم للخروج كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم {فَثَبَّطَهُمْ} فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه {وَقِيلَ اقعدوا} أي قال بعضهم لبعض، أو قاله الرسول عليه السلام غضباً عليهم، أو قاله الشيطان بالوسوسة {مَعَ القاعدين} هو ذم لهم وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود في البيوت. {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ} بخروجهم معكم {إِلاَّ خَبَالاً} إلا فساداً وشراً، والاستثناء متصل لأن المعنى ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً، والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك «ما زداوكم خيراً إلا خبالاً» والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلاً لأن الخبال بعضه {ولأَوْضَعُواْ خلالكم} ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين. يقال: وضع البعير وضعاً إذا أسرع. وأوضعته أنا. والمعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي. وخط في المصحف {وَلاَ أوضعوا} بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه {أَوْ لاَ أذبحنه} [النمل: 21] {يَبْغُونَكُمُ} حال من الضمير في {أوضعوا} {إِلَى الفتنة} أي يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم {والله عَلِيمٌ بالظالمين} بالمنافقين {لَقَدِ ابتغوا الفتنة} بصد الناس أو بأن يفتكوا به عليه السلام ليلة العقبة، أو بالرجوع يوم أحد {مِن قَبْلُ} من قبل غزوة تبوك {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} ودبروا لك الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في إبطال أمرك {حتى جَاءَ الحق} وهو تأييدك ونصرك {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} وغلب دينه وعلا شرعه {وَهُمْ كارهون} أي على رغم منهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)} {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّي} ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت، أولا تلقني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل: قال الجد بن قيس المنافق: قد علمت الأنصار إني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بمالي فاتركني {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} يعني أن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} الآن لأن أسباب الإحاطة معهم أو هي تحيط بهم يوم القيامة {إِن تُصِبْكَ} في بعض الغزوات {حَسَنَةٌ} ظفر وغنيمة {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} نكبة وشدة في بعضها نحو ما جرى يوم أحد {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} الذي نحن متسمون به من الحذ والتيقط والعمل بالحزم {مِن قَبْلُ} من قبل ما وقع {وَيَتَوَلَّواْ} عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي قضى من خير أو شر {هُوَ مولانا} أي الذي يتولانا ونتولاه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} تنتظرون بنا {إِلا إِحْدَى الحسنيين} وهما النصرة والشهادة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوءيين إما {أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ} وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود {أَوْ} بعذاب {بِأَيْدِينَا} وهو القتل على الكفر {فَتَرَبَّصُواْ} بنا ما ذكرنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} ما هو عاقبتكم {قُلْ أَنفِقُواْ} في وجوه البر {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} طائعين أو مكرهين نصب على الحال. {كَرْهاً} حمزة وعلي وهو أمر في معنى الخبر ومعناه {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} أنفقتم طوعاً أو كرهاً ونحوه {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وقوله أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت، وقد جاز عكسه في قولك «رحم الله زيداً»، ومعنى عدم القبول أنه عليه السلام يردها عليهم ولا يقبلها أو لا يثيبها الله. وقوله {طَوْعاً} أي من غير إلزام من الله ورسوله و{كَرْهاً} أي ملزمين، وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه {إِنَّكُمْ} تعليل لرد إنفاقهم {كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} متمردين عاتين. {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم} وبالياء: حمزة وعلي {إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ} أنهم فاعل «منع» وهم و{أَن تُقْبَلَ} مفعولاه أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم {بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} جمع كسلان {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون} لأنهم لا يريدون بهما وجه الله تعالى، وصفهم بالطوع في قوله {طَوْعاً} وسلبه عنهم ههنا لأن المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختبار. {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راضٍ به متعجب من حسنه، والمعنى فلا تستحسن ما أوتوا من زينة الدنيا فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم ليعذبهم بالمصائب فيها، أو بالإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له، أو بنهب أموالهم وسبي أولادهم، أو بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} وتخرج أرواحهم، وأصل الزهوق الخروج بصعوبة، ودلت الآية على بطلان القول بالأصلح لأنه أخبر أن إعطاء الأموال والأولاد لهم للتعذيب والأماتة على الكفر وعلى إرادة الله تعالى المعاصي، لأن إرادة العذاب بإرادة ما يعذب عليه، وكذا إرادة الإماتة على الكفر {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} لمن جملة المسلمين {وَمَا هُم مّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} مكاناً يلجئون إليه متحصنين من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة {أَوْ مغارات} أو غيراناً {أَوْ مُدَّخَلاً} أو نفقاً يندسون فيه وهو مفتعل من الدخول {لَّوَلَّوَاْ إِلَيْهِ} لأقبلوا نحوه {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء من الفرس الجموح {وَمِنْهُمُ} ومن المنافقين {مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} «إذا» للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجئوا السخط، وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأنه عليه السلام استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه. {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله راغبون} جواب «لو» محذوف تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم، والمعنى ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون. ثم بين مواضعها التي توضع فيها فقال: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء والمساكين} قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك «إنما الخلافة لقريش» تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم، فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها، وأن تصرف إلى بعضها كما هو مذهبنا، وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: في أي صنف منها وضعتها أجزأك. وعند الشافعي رحمه الله: لا بد من صرفها إلى الأصناف وهو المروي عن عكرمة. ثم الفقير الذي لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال والمسكين الذي يسأل لأنه لا يجد شيئاً فهو أضعف حالاً منه، وعند الشافعي رحمه الله على العكس {والعاملين عَلَيْهَا} هم السعادة الذين يقبضونها {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} على الإسلام أشراف من العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريراً لهم على الإسلام {وَفِي الرقاب} هم المكاتبون يعانون منها {والغارمين} الذين ركبتهم الديون {وَفِي سَبِيلِ الله} فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم {وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله، وعدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن «في» للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها. وتكرير «في» في قوله {وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل} فيه فضل وترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. وإنما وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ليدل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات حاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسماً لأطماعهم وإشعاراً بأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها، وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها! وسهم المؤلفة قلوبهم سقط بإجماع الصحابة في صدر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم، والحكم متى ثبت معقولاً لمعنى خاص يرتفع وينتهي بذهاب ذلك المعنى {فَرِيضَةً مّنَ الله} في معنى المصدر المؤكد لأن قوله {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ} معناه فرض الله الصدقات لهم {والله عَلِيمٌ} بالمصلحة {حَكِيمٌ} في القسمة. {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة، وإيذاؤهم له هو قولهم فيه {هُوَ أُذُنٌ} قصدوا به المذمة وأنه من أهل سلامة القلوب والعزة، ففسره الله تعالى بما هو مدح له وثناء عليه فقال {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} كقولك «رجل صدق» تريد الجودة والصلاح كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك. ثم فسر كونه أذن خير بأنه {يُؤْمِنُ بالله} أي يصدق بالله لما قام عنده من الأدلة {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وعدي فعل الإيمان بالباء إلى الله، لأنه قصد به التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به، وإلى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده، ألا ترى إلى قوله {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] كيف ينبو عن الباء {وَرَحْمَةٌ} بالعطف على {أذن} {وَرَحْمَةٌ}: حمزة عطف على {خَيْرٍ} أي هو أذن خير وأذن رحمة لا يسمع غيرها ولا يقبله {لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ} أي وهو رحمة الذين آمنوا منكم أي أظهروا الإيمان أيها المنافقون حيث يقبل إيمانكم الظاهر ولا يكشف أسراركم ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، أو هو رحمة للمؤمنين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدارين.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم فقيل لهم {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مؤمنين كما تزعمون، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق. وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسول الله فكانا في حكم شيء واحد كقولك «إحسان زيد وإجماله نعشني» أو والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ} أن الأمر والشأن {مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} يجاوز الحد بالخلاف وهي مفاعلة من الحد كالمشاقة من الشق {فَأَنَّ لَهُ} على حذف الخبر أي فحق أن له {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم * يَحْذَرُ المنافقون} خبر بمعنى الأمر أي ليحذر المنافقون {أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} {تُنَزَّلَ} بالتخفيف: مكي وبصري {تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من الكفر والنفاق، والضمائر للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم دليله {قُلِ استهزءوا}، أو الأولان للمؤمنين، والثالث للمنافقين، وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه {قُلِ استهزءوا} أمر تهديد {إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} مظهر ما كنتم تحذرونه أي تحذرون إظهاره من نفاقكم، وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم وفي استهزائهم بالإسلام وأهله حتى قال بعضهم: وددت أني قدّمت فجلدت مائة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} بينا رسول الله يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه على ذلك فقال: احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا. فقالوا: يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر، أي ولئن سألتهم وقلت لهم لم قلتم ذلك؟ لقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب {قُلْ} يا محمد {قُلْ أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون، باستهزائهم وبأنه موجود فيهم حتى وبخوا بإخطائهم موقع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد ثبوت الاستهزاء {لاَ تَعْتَذِرُواْ} لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم {قَدْ كَفَرْتُمْ} قد أظهرتم كفركم باستهزائكم {بَعْدَ إيمانكم} بعد إظهاركم الإيمان {إن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ} بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مصرين على النفاق غير تائبين منه {أَن يُعفَ تُعَذّبَ طَائِفَةٌ} غير عاصم. {المنافقون والمنافقات} الرجال المنافقون كانوا ثلثمائة والنساء المنافقات مائة وسبعين {بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} أي كأنهم نفس واحدة، وفيه نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [التوبة: 56] وتقرير لقوله {وَمَا هُم مّنكُمْ} [التوبة: 56] ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين فقال {يَأْمُرُونَ بالمنكر} بالكفر والعصيان {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} عن الطاعة والإيمان {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} شحاً بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله {نَسُواْ الله} تركوا أمره أو أغفلوا ذكره {فَنَسِيَهُمْ} فتركهم من رحمته وفضله {إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون} هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف به المنافقون حين بالغ في ذمهم {وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} مقدرين الخلود فيها {هِىَ} أي النار {حَسْبُهُمْ} فيه دلالة على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه {وَلَعَنَهُمُ الله} وأهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم معهم في العاجل لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم. الكاف في {كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم} محلها رفع أي أنتم مثل الذين من قبلكم، أو نصب على فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم أي تلذذوا بملاذ الدنيا. والخلاق النصيب مشتق من الخلق وهو التقدير أي ما خلق للإنسان بمعنى قدر من خير {وَخُضْتُمْ} في الباطل {كالذي خَاضُواْ} كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوا. والخوض الدخول في الباطل واللهو، وإنما قدم {فاستمتعوا بخلاقهم} وقوله (كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} مغن عنه ليذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة} في مقابلة قوله {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [العنكبوت: 27] {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} ثم ذكر نبأ من قبلهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ} هو بدل من {الذين} {وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ} وأهل مدين وهم قوم شعيب {والمؤتفكات} مدائن قوم لوط، وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر وتكذيب الرسل {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} في التناصر والتراحم {يَأْمُرُونَ بالمعروف} بالطاعة والإيمان {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} عن الشرك والعصيان {وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله} السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في «سأنتقم منك يوماً» {إِنَّ الله عزيزٌ} غالب على كل شيء قادر عليه فهو يقدر على الثواب والعقاب {حَكِيمٌ} واضع كلا موضعه {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً} يطيب فيها العيش وعن الحسن رحمه الله: قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد {فِى جنات عَدْنٍ} هو علم بدليل قوله {جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن} [مريم: 61] وقد عرفت أن «الذي» و«التي» وضعا لوصف المعارف بالجمل وهي مدينة في الجنة {ورضوان مّنَ الله} وشيء من رضوان الله {أَكْبَرُ} من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة {ذلك} إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان {هُوَ الفوز العظيم} وحده دون ما يعده الناس فوزاً.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)} {ياأيها النبى جاهد الكفار} بالسيف {والمنافقين} بالحجة {واغلظ عَلَيْهِمْ} في الجهادين جميعاً ولا تحابهم، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} جهنم. أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه. منهم الجلاس بن سويد فقال: والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لأخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتنا فنحن شر من الحمير. فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضر فحلف بالله ما قال، فرفع عامر يده فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزل {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} يعني إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير، أو هي استهزاؤهم فقال الجلاس: يا رسول الله والله لقد قلته وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام، وفيه دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد لأنه قال {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} من قتل محمد عليه السلام أو قتل عامر لرده على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوجوا ابن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا نَقَمُواْ} وما أنكروا وما عابوا {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فآثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى {فَإِن يَتُوبُواْ} عن النفاق {يَكُ} التوب {خَيْراً لَّهُمْ} وهي الآية التي تاب عندها الجلاس {وَإِن يَتَوَلَّوْا} يصروا على النفاق {يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والأخرة} بالقتل والنار {وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} ينجيهم من العذاب. {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله} روي أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله ادع الله يرزقني مالاً فقال عليه السلام: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً وانقطع عن الجمعة والجماعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ فقال: " يا ويح ثعلبة " فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: ما هذه إلا جزية وقال: ارجعا حتى أرى رأيي، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه: «يا ويح ثعلبة» مرتين، فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال: إن الله منعني أن أقبل منك فجعل التراب على رأسه، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، وجاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه {لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ} أي المال {لَنَصَّدَّقَنَّ} لنخرجن الصدقة والأصل «لنتصدقن» ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} بإخراج الصدقة {فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ} أعطاهم الله المال ونالوا مناهم {بَخِلُواْ بِهِ} منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد {وَتَوَلَّواْ} عن طاعة الله {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} مصرون على الإعراض. {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ} فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي جزاء فعلهم وهو يوم القيامة {بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين، ومنه جعل خلف الوعد ثلث النفاق. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} يعني المنافقين {أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه {ونجواهم} وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها {وَأَنَّ الله علام الغيوب} فلا يخفى عليه شيء {الذين} محله النصب أو الرفع على الذم، أو الجر على البدل من الضمير في {سِرَّهُمْ ونجواهم} {يَلْمِزُونَ المطوعين} يعيبون المطوعين المتبرعين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات} متعلق ب {يَلْمِزُونَ}. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي فقال عليه السلام: " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً، وتصدق عاصم بمائة وسق من تمر {والذين} عطف على {المطوعين} {لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} طاقتهم. وعن نافع {جَهْدَهُمْ} وهما واحد. وقيل: الجهد الطاقة والجهد المشقة وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر فقال: بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي، وجئت بصاع فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} فيهزءون {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} جازاهم على سخريتهم وهو خبر غير دعاء {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم. ولما سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه في مرضه نزل {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وقد مر أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير وليس على التحديد والغاية، إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر لهم لأنهم كفار والله لا يغفر لمن كفر به، والمعنى وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم. وقد وردت الأخبار بذكر السبعين وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية، ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير، فالقليل ما دون الثلاث، والكثير الثلاث فما فوقها، وأدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية. والعدد أيضاً نوعان: شفع ووتر، وأول الإشفاع اثنان، وأول الأوتار ثلاثة، والواحد ليس بعدد، والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها أوتاراً ثلاثة وأشفاعاً ثلاثة، والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة كقولك «اثنا عشر وثلاثة عشرة» إلى «عشرين»، والعشرون تكرير العشرة مرتين، والثلاثون تكريرها ثلاث مرات وكذلك إلى مائة، فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه، وكمال الحساب والكثرة منه، فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز أن يكون تخصيص السبعين لهذا المعنى والله أعلم {ذلك} إشارة إلى اليأس من المغفرة {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ولا غفران لكافرين {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الإيمان ما داموا مختارين للكفر والطغيان {فَرِحَ المخلفون} المنافقون الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلّفهم بالمدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان {بِمَقْعَدِهِمْ} بقعودهم عن الغزو {خلاف رَسُولِ الله} مخالفة له وهو مفعول له، أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له {وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} أي لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر} قال بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} استجهال لهم لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل.
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} أي فيضحكون قليلاً على فرحهم بتخلفهم في الدنيا ويبكون كثيراً جزاء في العقبى، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيرهُ. يروي أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من النفاق {فَإِن رَّجَعَكَ الله} أي ردك من تبوك. وإنما قال {إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ} لأن منهم من تاب من النفاق ومنهم من هلك {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} إلى غزوة بدر غزوة تبوك {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} وبسكون الياء: حمزة وعلي وأبو بكر {وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا} {مَعِىَ} حفص {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} أول ما دعيتم إلى غزوة تبوك {فاقعدوا مَعَ الخالفين} مع من تخلف بعد. وسأل ابن عبد الله بن أبي وكان مؤمناً أن يكفن النبي صلى الله عليه وسلم أباه في قميصه ويصلي عليه فقبل، فاعترض عمر رضي الله عنه في ذلك فقال عليه السلام: " ذلك لا ينفعه وإني أرجو أن يؤمن به ألف من قومه " فنزل {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم} من المنافقين يعني صلاة الجنازة. روي أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب التبرك بثوب النبي صلى الله عليه وسلم {مَّاتَ} صفة ل {أَحَدٌ} {أَبَدًا} ظرف ل {تَصِلُ} وكان عليه السلام إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فقيل: {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون} تعليل للنهي أي أنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم لأنهم كفروا بالله ورسوله {وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} التكرير للمبالغة والتأكيد وأن يكون على بال من المخاطب لا ينساه وأن يعتقد أنه مهم، ولأن كل آية في فرقة غير الفرقة الأخرى. {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} يجوز أن يراد سورة بتمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه {أَنْ ءامِنُواْ بالله} بأن آمنوا أو هي «أن» المفسرة {وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ} ذوو الفضل والسعة {وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} أي النساء جمع «خالفة» {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الهلاك والشقاوة {لكن الرسول والذين ءامَنُواْ جاهدوا *** بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} أي إن تخلف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو من هو خير منهم {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات} تناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ. وقيل: الحور لقوله {فِيهِنَّ خيرات} [الرحمن: 70] {وأولئك هُمُ المفلحون} الفائزون بكل مطلوب {أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم} قوله {أَعَدَّ} دليل على أنها مخلوقة. {وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} هو من عذّر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى، وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما فعل ولا عذر له، أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين وهم الذين يعتذرون بالباطل قيل: هم أسد وغطفان قالوا: إن لنا عيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من الأعراب {عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} الهرمى والزمنى {وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} هم الفقراء من مزينة وجهينة وبني عذرة {حَرَجٌ} إثم وضيق في التأخر {إِذَا نَصَحُواْ الله وَرَسُولُهِ} بأن آمنوا في السر والعلن وأطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه {مَا عَلَى المحسنين} المعذورين النّاصحين {مّن سَبِيلٍ} أي لا جناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم {والله غَفُورٌ} يغفر تخلفهم {رَّحِيمٌ} بهم {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} لتعطيهم الحمولة {قُلْتَ} حال من الكاف في {أَتَوْكَ} و«قد» قبله مضمرة أي إذا ما أتوك قائلاً {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} هو جواب «إذا» {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} أي تسيل كقولك «تفيض دمعاً» وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض و«من» للبيان كقولك «أفديك من رجل»، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز، ويجوز أن يكون {قُلْتَ لاَ أَجِدُ} استئنافاً كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ فقيل: {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض {حَزَناً} مفعول له {أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} لئلا يجدوا ما ينفقون ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبة {حَزَناً} والمستحملون أبو موسى الأشعري وأصحابه، أو البكاؤون وهم ستة نفر من الأنصار.
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَئْذِنُونَكَ} في التخلف {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} وقوله {رَضُواْ} استئناف كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا {بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} أي بالانتظام في جملة الخوالف {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} يقيمون لأنفسهم عذراً باطلاً {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} من هذه السفرة {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ} بالباطل {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} لن نصدقكم وهو علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} علة لانتفاء تصديقهم لأنه تعالى إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أتنيبون أم تثبتون على كفركم {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} أي تردون إليه وهو عالم كل سر وعلانية {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجازيكم على حسب ذلك. {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} لتتركوهم ولا توبخوهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} فأعطوهم طلبتهم {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} تعليل لترك معاتبتهم أي أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم لأنهم أرجاسٍ لا سبيل إلى تطهيرهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمَ} ومصيرهم النار يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً فلا تتكلفوا عتابهم {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي يجزون جزاء كسبهم {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} أي غرضهم بالحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} أي فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها، وإنما قيل ذلك لئلا يتوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم. {الأعراب} أهل البدو {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وبعدهم عن العلم والعلماء {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ} وأحق بأن لا يعلموا {حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} يعني حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام ومنه قوله عليه السلام: «إن الجفاء والقسوة في الفدادين» يعني الأكرة لأنهم يفدون أي يصيحون في حروثهم والفديد الصياح {والله عَلِيمٌ} بأحوالهم {حَكِيمٌ} في إمهالهم {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} أي يتصدق {مَغْرَمًا} غرامة وخسراناً لأنه لا ينفق إلا تقيّة من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتاء المثوبة عنده {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوآئر} أي دوائر الزمان وتبدل الأحوال بدور الأيام لتذهب غلبتكم عليه فيتخلص من إعطاء الصدقة {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} أي عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعون وقوعها في المسلمين. {السوء} مكي وأبو عمرو وهو العذاب، و{السوء} بالفتح ذم للدائرة كقولك «رجل سوء» في مقابلة قولك «رجل صدق» {والله سَمِيعٌ} لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة {عَلِيمٌ} بما يضمرونه. {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} في الجهاد والصدقات {قربات} أسباباً للقربة {عَندَ الله} وهو مفعول ثان ل {يَتَّخِذُ} {وصلوات الرسول} أي دعاءه لأنه عليه السلام كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله «اللهم صل على آل أبي أوفى» {أَلا إِنَّهَا} أي النفقة أو صلوات الرسول {قُرْبَةٌ لَّهُمْ} {قُرْبَةٌ} نافع. وهذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه، والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} أي جنته وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله من المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها {إِنَّ الله غَفُورٌ} يستر عيب المخل {رَّحِيمٌ} يقبل جهد المقل {والسابقون} مبتدأ {الأولون} صفة لهم {مِنَ المهاجرين} تبيين لهم وهم الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين شهدوا بدراً أو بيعة الرضوان {والأنصار} عطف على {المهاجرين} أي ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} من المهاجرين والأنصار فكانوا سائر الصحابة. وقيل: هم الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة والخبر {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} بأعمالهم الحسنة {وَرَضُواْ عَنْهُ} بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية {وَأَعَدَّ لَهُمْ} عطف على {رَضِيَ} {جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} {مِن تَحْتِهَا}: مكي {خالدين فِيهَا أَبَداً ذلك الفوز العظيم}.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم} يعني حول بلدتكم وهي المدينة {مّنَ الأعراب منافقون} وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} عطف على خبر المبتدأ الذي هو {مِمَّنْ حَوْلَكُم} والمبتدأ {منافقون} ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت «ومن أهل المدينة قوم» {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} أي تمهروا فيه على أن مردوا صفة موصوف محذوف، وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ، أو صفة ل {منافقون} فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره، ودل على مهارتهم فيه بقوله {لاَ تَعْلَمُهُمْ} أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم في تحامي ما يشككك في أمرهم. ثم قال {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} هما القتل وعذاب القبر، أو الفضيحة وعذاب القبر، أو أخذ الصدقات من أموالهم ونهك أبدانهم {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي عذاب النار. {وَءَاخَرُونَ} أي قوم آخرون سوى المذكورين {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين وكانوا عشرة، فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين، وكانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم، ففذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم فقال«: " وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم» " فنزلت، فأطلقهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال: " «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» " فنزل {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} {خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا} خروجاً إلى الجهاد {وَءاخَرَ سَيِّئاً} تخلفاً عنه، أو التوبة والإثم وهو من قولهم «بعت الشاء شاة ودرهما» أي شاة بدرهم، فالواو بمعنى الباء لأن الواو للجمع والباء للإلصاق فيتناسبان، أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك «خلطت الماء واللبن» تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك «خلطت الماء باللبن» لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به. وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت «خلطت الماء باللبن واللبن بالماء» {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} كفارة لذنوبهم. وقيل: هي الزكاة {تُطَهِّرُهُمْ} عن الذنوب وهو صفة ل {صَدَقَة} والتاء للخطاب أو لغيبة المؤنث. والتاء في {وَتُزَكِّيهِمْ} للخطاب لا محالة {بِهَا} بالصدقة والتزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، والسنة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخدها {إِنَّ صلواتك} {صلاتك} كوفي غير أبي بكر. قيل: الصلاة أكثر من الصلوات لأنها للجنس {صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم {والله سَمِيعٌ} لدعائك أو سميع لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم {عَلِيمٌ} بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} المراد المتوب عليهم أي ألم يعلموا قيل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} إذا صحت {وَيَأْخُذُ الصدقات} ويقبلها إذا صدرت على خلوص النية وهو للتخصيص أي إن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليها {وَأَنَّ الله هُوَ التواب} كثير قبول التوبة {الرحيم} يعفو الحوبة. {وَقُلِ} لهؤلاء التائبين {اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} أي فإن عملكم لا يخفى خيراً كان أو شراً على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم، أو غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة، فقد رُوي أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت. وقوله تعالى {فَسَيَرَى الله}. وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب} ما يغيب عن الناس {والشهادة} ما يشاهدونه {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تنبئة تذكير ومجازاة عليه {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} بغير همز: مدني وكوفي غير أبي بكر. {مرجئون} غيرهم من أرجيته وأرجأته إذا أخرته، ومنه المرجئة أي وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} إن أصروا ولم يتوبوا {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن تابوا وهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا في قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} {والله عَلِيمٌ} برجائهم {حَكِيمٌ} في إرجائهم، وإما للشك وهو راجع إلى العباد أي خافوا عليهم العذاب وارجو لهم الرحمة. ورُوي أنه عليه السلام أمر أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله. {والذين اتخذوا مَسْجِدًا} تقديره: ومنهم الذين اتخذوا. {الذين} بغير واو. مدني وشامي، وهو مبتدأ خبره محذوف أي جازيناهم. رُوي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه فقال: " إني على جناح سفر وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه " فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فقال لوحشي قاتل حمزة ومعن بن عدي وغيرهما: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام {ضِرَارًا} مفعول له وكذا ما بعد أي مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء {وَكُفْراً} وتقوية للنفاق {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ} وإعداداً لأجل من {حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} وهو الراهب أعدوه له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار {مِن قَبْلُ} متعلق ب {حَارَبَ} أي من قبل بناء هذا المسجد يعني يوم الخندق {وَلَيَحْلِفُنَّ} كاذبين {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في حلفهم {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} للصلاة {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى} اللام للابتداء و{أُسِّسَ} نعت له وهو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء أو وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} من أيام وجوده. قيل: القياس فيه مذ، لأنه لابتداء الغاية في الزمان، و«من» لابتداء الغاية في المكان، والجواب إن من عام في الزمان والمكان {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} مصلياً {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} قيل: لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء، فإذا لأنصار جلوس فقال: «أمؤمنون أنتم؟» فسكت القوم. ثم أعادها فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم، فقال عليه السلام: «أترضون بالقضاء» قالوا: نعم. قال: «أتصبرون على البلاء؟» قالوا: نعم. قال: «أتشكرون في الرخاء؟» قالوا: نعم. قال عليه السلام: «مؤمنون أنتم ورب الكعبة» فجلس ثم قال: «يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟» فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} قيل: هو عام في التطهر عن النجاسات كلها. وقيل: هو التطهر من الذنوب بالتوبة. ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء، ومعنى محبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)} {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} وضع أساس ما يبنيه {على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} هذا سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه، والمعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي تقوى الله ورضوانه، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذي مثله شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى. والشفا: الحرف والشفير، وجرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً، والهار الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط، ووزنه فعل قصر عن فاعل كخلف من خالف، وألفه ليس فاعل إنما هي عينه وأصله «هور» فقلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل وكنه أمره {أَفَمَنْ أُسَّسَ بُنْيَانَهُ} شامي ونافع {جرْف} شامي وحمزة ويحيى {هارِ} بالإمالة: أبو عمرو وحمزة في رواية ويحيى {فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} فطاح به الباطل في نار جهنم. ولما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها. قال جابر: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم {إِلاَّ أَن تَقَطَّع قُلُوبُهُمْ} شامي وحمزة وحفص أي تتقطع. غيرهم {تُقطّع} أي إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه، وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، ثم يجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار، أو معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم {والله عَلِيمٌ} بعزائمهم {حَكِيمٌ} في جزاء جرائمهم. {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء. ورُوي: تاجرهم، فأغلى لهم الثمن. وعن الحسن: أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها. ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي وهو يقرؤها فقال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد {يقاتلون فِى سَبِيلِ الله} بيان محل التسليم {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أي تارة يقتلون العدو وطوراً يقتلهم العدو. {فَيُقتلون وَيَقْتلون} حمزة وعلي {وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدر أي وعدهم بذلك وعداً {حَقّاً} صفته، أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته {فِي التوراة والإنجيل والقرءان} وهو دليل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه. ثم قال {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا فكيف بأكرم الأكرمين، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ} فافرحوا غاية الفرح فإنكم تبيعون فانياً بباقٍ {وذلك هُوَ الفوز العظيم} قال الصادق: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. {التائبون} رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين، أو هو مبتدأ خبره {العابدون} أي الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة، وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن: هم الذين تابوا من الشرك وتبرءوا من النفاق {الحامدون} على نعمة الإسلام {السائحون} الصائمون لقوله عليه السلام «سياحة أمتي الصيام» أو طلبة العلم لأنهم يسيحيون في الأرض يطلبونه في مظانه، أو السائرون في الأرض للاعتبار {الركعون الساجدون} المحافظون على الصلوات {الآمرون بالمعروف} بالإيمان والمعرفة والطاعة {والناهون عَنِ المنكر} عن الشرك والمعاصي ودخلت الواو للإشعار بأن السبعة عقد تام، أو للتضاد بين الأمر والنهي كما في قوله: {ثيبات وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] {والحافظون لِحُدُودِ الله} أوامره ونواهيه، أو معالم الشرع {وَبَشّرِ المؤمنين} المتصفين بهذه الصفات. وهمّ عليه السلام أن يستغفر لأبي طالب فنزل {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى} أي ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم} من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك، ثم ذكر عذر إبراهيم فقال {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} أي وعد أبوه إياه أن يسلم أو هو وعد أباه أن يستغفر وهو قوله {لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] دليله قراءة الحسن {وَعَدَهَا أَبَاهُ} ومعنى استغفاره سؤاله المغفرة له بعد ما أسلم أو سؤاله إعطاء الإسلام الذي به يغفر له {فَلَمَّا تَبَيَّنَ} من جهة الوحي {لَهُ} لإبرهيم {أَنَّهُ} أن أباه {عَدُوٌّ لِلَّهِ} بأن يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وقطع استغفاره {إِنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ} هو المتأوه شفقاً وفرقاً، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته كان يتعطف على أبيه الكافر {حَلِيمٌ} هو الصبور على البلاء الصفوح عن الأذى، لأنه كان يستغفر لأبيه وهو يقول لأرجمنك {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يخذلهم إلا إذا قدموا عليه بعد بيان حظره وعلمهم بأنه واجب الاجتناب، وأما قبل العلم والبيان فلا، وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين، والمراد ب {مَّا يَتَّقُونَ} ما يجب اتقاؤه للنهي، فأما ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف {أَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ}. {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}
|